أحيانا” بعض الحوادث التي تطرأ عليك عن طريق الصدفة تكون الأساس لموضوع من الممكن جعله محور تدوينتك, وهذا ما يحصل عادة معي, وهذه الحادثة التي حصلت في مطار أوليفر تامبو، في جوهانسبرغ, جنوب أفريقيا كانت المصدر الأساس لهذا الموضوع.
كالعادة، أوفى طيران الإتحاد بوعده وتفوّقت خدماته: فرحلتنا من أبو ظبي وصلت قبل وقت طويل من الموعد المقرّر لها. وبالرغم من ذلك، فانني لن أتمكّن من تسجيل اسمي في الفندق لاستلام غرفتي إلا عند الساعة الحادية عشرة صباحاً. فعلى الرغم من أنّه لدي الكثير من الأعمال التي من المفترض أن أقوم بها, اضافة الى العديد من اللقاءات مع عدد من الأشخاص، الاّ أنّ معظم الشركات لا تبدأ بمزاولة عملها حتّى الساعة التاسعة صباحاً. لذا عليّ أن أنتظر لمدّة أربع ساعات, لأتمكّن بعدها من استلام سيارتي المُستأجرة, وأقودها إلى منطقة فورويز حيث سأقيم، ولكن ماذا سأفعل بعد ذلك؟
لحسن الحظ كانت رحلتي مريحة للغاية حيث قضيت خلالها بضع ساعات في النوم. لذا قررت أن أتجوّل حول المطار لفترة من الوقت. ولحسن حظّي أيضا” كان مقهى Mugg & Bean مشرّعاً أبوابه. فقد تبيّن أنهم يعملون 24 ساعة طوال الأسبوع. وغرابة الأمر أن المقهى وفي وقت مبكّر من الصباح كان مزدحماً جدّاً.
مفاجأتي الكبرى كانت بخدمة النادل “أوين” الودود وكفاءته في تسجيل وتقديم طلبي، بالإضافة إلى متابعته المستمرّة. فحالما يراني أُنهي فنجان قهوتي أجده يتقدم من تلقاء نفسه لإعادة ملئه من جديد. بالطبع، بعد أن عشت في هذه البلاد لمدة 23 عاماً، فإن زيارتي لجنوب أفريقيا تشعرني دائماً كأنها العودة إلى الوطن، وهذه المرة لم يختلف الأمر: فقد اجتاحني دفء شعبها على الفور…
خلال وجودي في المقهى لاحظت النوادل والنادلات يجتمعون حول طاولتين في الجهة المقابلة لي. وكان “أوين” جالساً يراقبني وأنا أنظر إليهم، فنهض، ومشى نحو طاولتي، وسألني فيما إذا كانت أريد طلب شيء ما. ولدى جوابي بالنفي ابتسم وعاد إلى مقعده. كان اجتماع الموظفين على وشك أن يبدأ، وكنت قريباً بما فيه الكفاية لسماع المناقشة الدائرة فيما بينهم.
ماكسيميلين، وهو الشخص الذي يدير الحوار، يذكّر النوادل بوجوب تقديم أنفسهم للزبائن الوافدين وبأشياء أخرى ينبغي عليهم القيام بها. ويشدّد على أنه ينبغي عليهم التأكد من إدخال أرقام الطاولات بشكل صحيح في النظام كونهم يسجلون طلباتهم بأنفسهم، واستنتجت أنها مشكلة مزمنة. ومن ثم دعا الجميع لطرح مقترحاتهم حول ما الذي بإمكانهم القيام به لتحسين خدمتهم. واختتم الاجتماع بتقديم التعازي إلى برينسيس، التي فقدت والدتها قبل أيام قليلة، وما زالت ترزح تحت وطأة حزن شديد. وقد شدّ أزرها بعض من زملائها أثناء نهوضهم واستعدادهم لبدء عمل اليوم.
لم يستغرق الاجتماع وقتاً أطول من 7 الى 8 دقائق. في قطاع البناء والإعمار سيتمّ وصف هذا الأمر بأنه “نقاش الأدوات”، وعادة ما ت
تم الدعوة إليه من قبل رئيس عمال فريق صغير، ومعروف عن هذا الاجتماع كونه فعّالاً في توحيد فريق العمل بالتركيز على عمل اليوم القادم، وبتذكيرهم بكلّ ما يجب عليهم القيام به أو اجتنابه في أعمالهم.
كتب الراحل العظيم والذي يعتبر المرشد الروحي للإدارة “بيتر دراكر” أن كلّ عمل يجب أن “يُوجد عميل”. كما أنه يذكّرنا أيضاً أن قيمتنا بالنسبة لعملائنا ليست حول منتجاتنا في المقام الأول (وأشفق على الأعمال التي تعتقد بهذا) ولكن حول ما الذي تقدّمه منتجاتنا لهم، والمنفعة التي تقدّمها إلى عالمهم.
هذه النقطة الأخيرة هي التي كانت واضحة جداً بسبب وضعي هذا الصباح. ما الذي كنت أبحث عنه؟ لقد تناولت الإفطار على متن الطائرة مسبقاً وهو آخر ما كنت أصبو إليه. ومع ذلك قرّرت دخول مقهى Mugg & Bean وطلب إفطار آخر. حيث كنت أصبو إلى مكان مريح أقضي فيه وقت الانتظار الإجباري الذي فرض عليّ، وكان أفضل مكان متاح لي. بالإضافة إلى أنّني أحب جوّ مقهى Mugg & Bean. حيث يمكنك مشاهدة التلفاز، أو قراءة المجلات، اضافة الى القهوة الجيّدة التي يقدّمها. وعلاوة على ذلك، لقد كان السبب بأن أفكّر مليّاً في موضوع الإدارة هذا واستلهام هذه المدوّنة.
عادة ما نميل إلى نسيان هذه الحقائق البسيطة في مجال الأعمال التجارية، والأكثر منها في المشاريع. فالمشاريع فريدة من نوعها لذا فإننا بحاجة إلى تحديد عملائنا في كلّ مرّة. كما أنه يمكن أن يكون العميل مختلفاً في كل مرحلة من مراحل المشروع. وقد يكون هناك العديد من العملاء وبالتأكيد هناك العديد من الأطراف المعنيّة.
كما أنّه من المفترض أن نعي احتياجات عملائنا، ليس من حيث المنتج فقط، ولكن من حيث مبدأ ماذا يتوقعون من منتجاتنا أن تقدّم لهم. فعلينا معرفة أهدافهم، وبالتالي أعمالهم. ومن المفترض أن يتمّ ذلك في وقت مبكّر من فترة امتداد حياة المشروع، وفي وقت أبكر من كلّ مرحلة في حالة المشاريع الكبيرة. وأقول “من المفترض” لأننا نعرف بأن هذا هو المكان الذي يتخلّف فيه الكثير من مدراء المشاريع. وفي كثير من الأحيان نكتفي بتوفير منتج ما، ونتهرّب من مسؤوليتنا بجعل المنتج ينجح في ايصال النتيجة والقيمة المرجوّة لعملائنا.
يجب علينا كمدراء مشاريع أن نقوم بإجراء “نقاش الأدوات”، وليس فقط مع فريق عملنا، وإنما مع عملائنا والأطراف المعنيّة الرئيسيّة الأخرى أيضاً. يجب أن نخرج عن نطاق فهمنا لما هو متوقّع من نتائج المشروع، حتى نتمكّن من إيجاد المنتج الصحيح، والهدف الصحيح، وبالطريقة الصحيحة.
ما يفاجئني هنا أيضاً من نافذتي الصغيرة على العالم أنّ التواصل يتدفق بكلّ حريّة وسهولة. فهناك متابعة مستمرة للطلبات أثناء مرور النوادل أمام بعضهم البعض، وكذلك عند جهاز الكمبيوتر حيث يسجّلون طلباتهم وفقاً للطاولة حتى يجمعون الفاتورة الصحيحة في نهاية الأمر. هذا الأمر ليس محض ثرثرة، ولكنه ضروري للتواصل بحدّ ذاته، الذي عادة ما نتهرّب منه في مكاتبنا الصامتة صمت المقابر.
مع مرور الوقت، بدأت أتحضّر لقيادة السيارة إلى فورويز، التي تقع شمال جوهانسبرغ. تغمرني السعادة بانطباعات هذا الصباح، ولكنني أدركت فجأة أنّه نظراً للوقت، فإنّني سأواجه حركة مرور الصباح الخانقة على الطريق السريع.
لا شيء كامل تماماً كما يبدو.
خاتمة:
عندما كنت أقوم بتوضيب جهاز الكمبيوتر الخاص بي وأستعدّ لمغادرة الطاولة التي كنت أجلس عليها، تقدّم نحوي ماكسيميلين وتعلو وجهه نظرة قلق إلى حد ما، ليسألني عمّا إذا كان كل شيء على ما يرام. لقد تمّ تنظيف طاولتي منذ فترة طويلة وهي تبدو كما لو أنه لم يقدّم لي شيء على الإطلاق. طمأنته على مدى ارتياحي وأثنيت على خدمة “أوين” الممتازة.
شاركته بعض هذه الأفكار من مبدأ الفائدة، واستفسرت عن خبرته المهنية. وتبيّن أنه قد انتقل إلى هنا من كيب تاون منذ 4 أشهر ليشغل هذا المنصب، وأنه قبل ذلك كان موظفاً لدى شركة شيل. “من النفط والغاز إلى الضيافة؟” عقّبت ممازحاً. فأجابني “نعم”، وأضاف ” هذا في الوقت الراهن. حتى تلوح في الأفق فرصة عمل أخرى … “.