هل إدارة جودة المشروع بمثابة فنجان من القهوة بالنسبة لك؟

تمهيد

ان كاتب هذا المقال هو نائب مدير شركة سوكاد السيد لوك بومنز. ويتميز السيد بومنز بحبه للقهوة بشكل كبير وانه ومن خلال التجربة أو الحادثة التي جرت معه أثناء قيامه بتغطية دورة تدريبية حول التخطيط لإدارة المشاريع، فقد قام بتدوين هذه المقالة شارحا” أهمية جودة المشروع.

مقدمة

من المثير للدهشة، كيف أن الصدفة المحضة يمكن أن تثير أفكاراً جديدة. أو بتعبير أدق، أن تسلط ضوءً جديداً يرسّخ الفهم بشكل أعمق حول مفهوم معروف منذ زمن بعيد.

أتهيأ هذا الأسبوع لإعطاء دورة تدريبية حول التخطيط لإدارة المشاريع، لقد كان الفندق مكتظاً بالنزلاء لدرجة أنه وبعد أن قضينا يومنا الأول في مكان مؤقت انتقلنا اليوم إلى موقعنا “الدائم” في قاعة المؤتمرات، فالقاعة الجديدة أكبر وأكثر راحة، ومع ذلك صادفنا عائقاً واحداً: لم يكن فيها آلة إسبرسو لصنع القهوة كالتي كنا نتمتع بها بالأمس.

أنا الآن، أتحدث بلطف، وعلى وجه الخصوص عن فنجان قهوتي، وعن السائل الأسود المثير للشك الذي قدم إلينا اليوم موضوعاً في مستوعب قابل للتسخين يحمل لاصقة مكتوب عليها “قهوة” والذي لم يلبي توقعاتي على أقل تقدير. لذا، وبعد تناول طعام الغداء كنت أتوق للحصول على فنجان قهوة ممتاز واستفسرت فيما إذا كنت أستطيع الحصول على آلة إسبرسو لصنع القهوة. وتمت تلبية رغبتي مما أثار سعادتي الغامرة فقمت بتحديد مواصفات الآلة التي أريدها: فقد كنت أرغب في آلة إسبريسو “طويلة” (من اللغة الايطالية “Un espresso lungo”)، أي ضعف كمية المياه المضغوطة التي تعبئها (وهي على النقيض من تلك التي تخلط المزيج في الفنجان كما في آلة أمريكانو أو لونغ بلاك) عن طريق جرعة إسبريسو واحدة من القهوة.

أعلم أن لدى الآلة مفتاحين للاختيار: أحدهم لفنجان القهوة الصغير والآخر لفنجان القهوة الأكبر. ووفق اعتقادي فهي تعليمات بسيطة جداً، كنت سعيداً من مبدأ أنني سأتمتع على الأقل بفنجان قهوة ممتاز، فعدت حينها إلى الصف.

لقد صادف أن الموضوع المطروح بعد ظهر هذا اليوم هو إدارة جودة المشروع. حيث بدأنا بمناقشة مختلف الأدوات والمفاهيم، وكان أحدها مفهوم “الطلي بالذهب”، والذي يشير إلى إعطاء العملاء أكثر مما هو مطلوب. وينظر إلى هذا الأمر على أنه إدارة مشروع سيئة، حيث أنها تهدر الموارد دون جدوى في الحصول على نتائج من المشروع، وبالتالي، وعلى عكس ما قد يتوقعه الكثيرون، لم تتحقق الجودة.

كما أصبحت إدارة الجودة إحدى المواضيع المفضلة لدي بعد قراءة وفهم كتاب الدكتور إدواردز ديمينغ “الخروج من الأزمة”. فقد غير هذا الكتاب حرفياً طريقتي في التفكير، ليس فقط حول إدارة الجودة ولكن حول الإدارة والقيادة بشكل عام. وارتفعت منزلة الدكتور ديمينغ في قائمتي بعد وفاته ليصبح أحد أفضل 5 من كبار المفكرين في جميع الأوقات. حيث أنه وعن غير قصد قام بفضح تناقضات كبيرة في الكثير من نظريات الإدارة وآليات الجودة الأخرى. فمنطقه بسيط وجذاب، وله من البساطة ما يدل على مسيرة حياة معقّدة. وكل ما أصبو إليه هو أن أصل يوماً ما إلى هذا الوضوح في التفكير.]1[

بينما كنت أشاطر بعض هذه الأفكار مع المجموعة، وإذ بطرقة على الباب أعلنت عن وصول آلة صنع القهوة. لقد بدت قوية لدرجة أنني تأكدت من أنها آلة طويلة”lungo”  وليست آلة مزج مزدوجة أو”doppio”. لذا اطمأن قلبي لكونها المواصفات التي طلبت وغادر النادل الغرفة بعد ذلك. قمت بمزج السكر بينما كنت أواصل الحديث، وتركت الآلة دقيقتين من الزمن حتى تهدأ. وعندما ذقت القهوة أخيراً، تبين لي أنها آلة إسبريسو مزدوجة.

انقلبت سعادتي إلى وجوم. وبدأ جرحي القديم بالنزف مرة أخرى. ما الخطأ الذي ارتكب، لماذا لا يستطيعوا اتباع تعليمات بسيطة مثل “اضغط على المفتاح الخاص بالفنجان الكبير”؟

بالبحث عن مبرر للأسباب المحتملة التي أدت إلى مثل هذا الخلل في الجودة، تمكنت من الخروج باحتمالين رئيسيين: أولهما، أن تعليماتي لم تكن مفهومة (حيث كان علي التأكيد أكثر)، أو ما هو أسوأ من ذلك بكثير، أن رسالتي فهمت ولكن النادل كان يحاول “إسعادي” بجعلها آلة مزدوجة. لقد كان يحاول طلي طلبي بالذهب، والأمر بالنسبة لي، هو أن آلة الإسبريسو المزدوجة تستهلك ضعف كمية القهوة في نفس كمية المياه وعليه فهي قوية جداً بالنسبة لي، وتحتوي على كافيين وزيوت القهوة أكثر مما يناسبني.

فجأة، صدم فهمي لمبدأ “الطلي بالذهب” من قبل معدة تحتج وكبد يزبد. وهو الذي قمت بتصنيفه من قبل على أنه “إساءة بسيطة”، وإن كانت غير أخلاقية كما هو الحال بإساءة استخدام موارد الأطراف المعنية، فقد انتقلت الآن بحزم إلى خلايا الدماغ التي تحتوي على فشل المشروع بكل صراحة. ليس لأني لا أفضل آلة “doppio”، ولكن ببساطة لا يمكنني أن أشرب هذه القهوة.

في واقع الأمر، لا أتذكر فيما إذا كنت قد حصلت فعلاً على آلة “lungo”  خلال السنوات الثلاث والنصف الماضية. وأعترف بأني لا أقف أمام نتيجة كل فنجان من القهوة، فهناك عدد قليل من الأماكن التي تقوم بتقديم قهوة “أمريكانو بيكولو” الرائعة كالتي كنت مستعداً لإعدادها، وخاصة إذا تم تقديمها بفنجان من الخزف (مذاق القهوة أفضل في فنجان من الخزف) وليس في فنجان ورقي، والذي يحتوي على حوالي ضعف الكمية. وكون الأكواب الورقية هي المتاحة فقط، فإنني أطلب أحياناً نصف كوب من القهوة، ولكنني ألاحظ بأن بائعة القهوة نسيت، وملأت كوباً كاملاً من القهوة ومن ثم أراقت نصفه. حينها أشعر بأني لست أقضي أفضل أيام حياتي.

في إحدى المناسبات وأنا داخل مطعم سألت معدّ القهوة، والذي بدى أنه إيطالي، واسترسلنا بالحديث عن صعوبة الحصول على فنجان قهوة “lungo”. واستوعب وجهة نظري، واعتقدت أخيراً بأنني وجدت الملاذ الذي كنت أصبوا إليه، ولخيبة أملي المطلقة، تمّ تقديم فنجان قهوة “doppio” على مائدتي بدلاً مما طلبت، حيث أن فترة عمل معدّ القهوة قد انتهت وقد غادر.

ربما يرجع ذلك إلى حقيقة أن معظم معدي القهوة هنا لا يشربون القهوة، وفي هذه الحالة فإنهم لن يعوا آلية التوازن الدقيق بين القهوة والماء. ربما هناك اعتقاد بأنه كلما كانت القهوة أقوى، كان الزبون أكثر سعادة. وربما يعود ذلك ببساطة لعدم وجود الوعي، الذي بالإمكان معالجته بسهولة بتقديم بعض التدريب. فهناك معهد للتدريب على صنع القهوة وتهيئة معدي القهوة في دبي من شأنه حل مثل هذه المشاكل التي تقف عائقاً أمام استثمار يوم كامل وبشكل نهائي، ومع ذلك، يبدو أننا لم نستطع استيعاب الأمر بشكل صحيح. بالرغم من وجود جميع الأدوات المتقنة والمعدات التي لدينا فمازلنا تكافح.

لا يوجد أي فائدة من إلقاء اللوم على معد القهوة. فكما قال الدكتور ديمينغ، أكثر من 90% من الانحراف متأصل في النظام وخارج عن سيطرة العامل. وإذا كانت هناك مسببات لهذه الانحرافات فعلينا إيجادها والقضاء عليها، ولكن، وعلى النقيض من نظريات الجودة الأخرى، فهذه ليست النقطة التي تنتهي عندها جهودنا في تحسين الجودة. ولكنها حيث تبدأ.

لأنه إن لم نتمكن من الحصول على فنجان بسيط من القهوة ليقدم على مائدتنا ووفق ما نحب، فلا يمكن للمرء إلا أن يتساءل حول المكان الآخر الذي يجب علينا أن نفشل فيه فشلاً ذريعاً  …

Read in English

]1[ رأي يطرحه بيتر سنج في كتابه “القاعدة الخامسة”، مقدمة لطبعة منقحة، دووبلدي، 2006.